تنشر جريدة “أكاديرإينو” بتعاون مع جريدة “le12.ma” طوال الشهر الفضيل، ربورتاجات وبورتريهات حول أشخاص وأمكنة من سوس العالمة، كان لها الأثر في أحداث ووقائع يذكرها الناس ويوثقها التاريخ.
حلقة اليوم مع علم من أعلام المغرب، العلامة المختار السوسي..
*سامية أتزنيت
تزينت ردهات مؤسسة ’’أرشيف المغرب‘‘ مؤخرا بذرر العلامة الراحل محمد المختار السوسي، بعدما تسلمت وثائق ثمينة لأرشيفه، من نجله رضا الله عبد الوافي المختار السوسي.
“فالرصيد اللامادي الذي تركه والدنا لم يعد محتكرا من طرف ورثته، بل أصبح تراثا للمغاربة جمعاء، ووضعه رهن إشارة الباحثين والمحبين لكتاباته هو واجب علينا، لأن والدنا أفنى عمره في البحث والتنقيب والكتابة ليلا ونهارا، وترك هذه المادة الهائلة ليستفيد منها الجميع بعد وفاته رحمه الله”، يقول رضا الله عبد الوافي المختار السوسي.
مُترجم شلحة سوس
ويبدو أن جامع بيضا مدير ’’أرشيف المغرب‘‘ كان من أشد المرحبين بخطوة نجل المختار السوسي. فبيضا السوسي الأصل (من مدينة تيزنيت تحديدا)، شغوف بكل ما هو أمازيغي، خصوصا إن كان معرضا للاندثار.
فكان مما تحصلت عليه مؤسسة “أرشيف المغرب”، مجموعة نبغاء الصحراء التي تشمل رسائل وقصائد وتراجم بعض الصحراويين، ومجموعة من آثار الإفرانيين، تحوي العشرات من قصائدهم ورسائلهم وكل ما يتعلق بهم.
وتأتي أهم مجموعة بينها، المجموعة الأمازيغية التي تضم نماذج من كتابات الشلحة السوسية بالحروف العربية. وقد كان الراحل مترجما من أمازيغية سوس إلى العربية، ومن العربية إلى السوسية.
فنقل العلامة العديد من الأمثال والحكم والقصص السوسية المنتشرة بالمنطقة، مترجمة إلى اللغة العربية، وجمعها في مخطوطات ومؤلفات، منها على سبيل المثال لا الحصر، مؤلف ’’الألفاظ العربية في الشلحة السوسية “.
’’وَنَّا دَارْ أُرْلِّينْ لَدَابْ مَيْحْلاَ إِغْتْنِيتْ أُرُونْ مِيدْنْ فُولْكِينِينْ”، وترجمته (من لا أدب له لا يٌنظر إليه وإن أنجبه عظماء أجلاء‘‘. ”وَنَّا وْلِيوْرِيتْنْ لْعْقْلْ نْبَبَاسْ مَيْحْلاَ إِغِيتْ إِوْرْتْ لْمَالْنْسْ”، (من لم يرث عقل والده، فماذا يفيده إن ورث ماله)، كانت تلك مقتطفات من أمثلة وردت في مؤلفات العلامة السوسي.
ومما جاء في مخطوط رواية “أحاديث سيدي حمو الشلحي” لمحمد المختار السوسي من “محور أغاني الرعاة”، حديثا دار بين راعيتين أمازيغيتين، تقول فيه إحداهما: “إِسّنْ إِلْسِينْيْو تِفِيِّي إِسّنْ تِفيفْلْت، إِسّنْ تَاضْصَا نْطّنْزْ إِسّنْ وَنَّاتِيرَانْ”.
فترجمه العلامة الراحل بقوله: (كما عرف لساني مذاق اللحم وعرف مذاق الفلفل، عرف المضاحكة المؤسسة على الطنز وعرف المضاحكة التي على الصفا). ويسترسل السوسي في نقل مشهد الحوار بين الراعيتين، بأن ردت الأخرى قائلة: “أَوِيَانْغْ أَرْبِّي دَارْ وَالِي إِسْنْ لخِير، إِغُورِيزْضَارْ أَيِّتْسْكْرْسَا وْلْنْيِّيتْ” (يا ربي لا تحوجني إلا إلى من يعرف كيف وقع الصنع الحسن، فإن لم يتيسر له أن يفعل بي خيرا قال لي خيرا).
ولا تنحصر أعمال محمد المختار السوسي في الأمثال فقط. فقد كان مؤرخا اهتم بالأثر والتوثيق، وتوثيق أنساب منطقة سوس. ثما فقيها متمكنا من مفاتيح علوم الفقه والأصول، وأديبا محبا للغة العربية والكتابة والشعر.
أرشيفات “المختار السوسي”
تحتضن مؤسسة “أرشيف المغرب”، مخطوطات ووثائق عديدة تشمل نسخ من نماذج محتويات خزانة العلامة محمد المختار السوسي، كالظهائر والمراسلات الرسمية، ومسودات خطية من كتاباته ودروسه ومحاضراته.
هذا فضلا عن الأوسمة التي حصل عليها، وتسجيلات إذاعية وتلفزيونية مخصصة لأعماله ومساره، وشهاداته وألبوم صوره الشخصية.
ويضم الأثر الذي سلمه رضا الله السوسي، نجل العلامة الراحل، خمس مجموعات تاريخية، وهي مجموعة التراث السوسي: وتضم العشرات من الوثائق والرسائل والفتاوى والقصائد. ثم مجموعة قادة سوس تضم العديد من الظهائر والمراسلات الرسمية، وأهمها وثائق القائد الناجم الأخصاصي (220 وثيقة ) الذي قبض على “بوحمارة”.
ولم تقتصر أعمال محمد المختار السوسي على الأمثال الشعبية فقط، بل شملت أيضا أمثالا صوفية، تكسوها تعاليم الزهد، وحكم الحياة. فجاء فيها: “وَنَّا اور ايكيسْنْ ارًاسْ إيوامان هانْ اوركيس ايلًي ايريفي” إِزْبْلْ وترجمتها (من لم يزل القذارة من الماء، فهذا دليل على أنه ليس بعطشان). والمقصود من معنى المثل بحسب المختار السوسي قوله: “إن من حال بينه وبين أهل الخير بعض فلتات منهم، فذلك دليل على أنه لا يتلهف على صحبتهم، وإلا فعين الرضا كليلة عن كل عيب”.
عالم الدعوة والمقاومة
عالم دعوة صنفه الكثيرون “رائدا” في فكر النهضة منتصف القرن العشرين بالمغرب. ومقاوم مجاهد، انخرط في حركة النضال السياسي والثقافي الذي خاضته نخبة الوطنيين في مرحلة إقامته بمدينة فاس.
وقال عن هذه المرحلة: “في فاس استبدلت فكرا بفكر، فتكون لي مبدأ عصري -على آخر طراز- ارتكز على العلم والدين، والسنة القويمة، وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك وكانوا نخبة في العفة والعلم والدين، ينظرون إلى بعيد”، مقتطف من كتاب الإيلغيات.
ولد المختار السوسي عام 1900 في قرية “إلغ” بمنطقة سوس الأقصى، ونشأ في أسرة عريقة ترسّخ فيها حب العلم والتصوف. فقد كان والده الشيخ علي بن أحمد الإلغي رئيس الزاوية الدرقاوية.
فيما ساهمت والدته رقية في تعليمه الأولي. لقنته القراءة والكتابة والقرآن الكريم، الذي ختمه سبع مرات، في سن العاشرة.
أسس العلامة جمعية علماء سوس، التي أشرفت على بناء المعهد الإسلامي بمدينة تارودانت، وكان عضو اللجنة العلمية التي حررت مدونة الأحوال الشخصية المغربية.
ساهم المختار السوسي في تأسيس جمعيتين الأولى ثقافية باسم جمعية الحماسة، والثانية سياسية سرية ترأسها علال الفاسي.
وكان أول مشروع بدأت به النخبة الوطنية، نشر الوعي الإسلامي من خلال التطوع للتدريس بالمدرسة الناصرية، غير أنها أغلقت على يد المستعمر.
فاستلهم منه زملاءه فكرة “الجهاد” ببناء مدارس حرة تتمرد على مقررات التعليم الاستعماري. وجراء ذلك سارع المستعمر إلى نفيه عام 1937 أملا في أيقاف المقاومة على الطريقة “السوسية”.
ألقي عليه القبض عام 1952 ونفي من جديد إلى الصحراء الشرقية مع طائفة من زعماء الحركة الوطنية.
في سنة 1955 عٌين وزيرا للأوقاف في أول حكومة مغربية بعد الاستقلال، ثم سنة 1956 وزيرا في مجلس التاج، وهي وزارة أسسها الملك محمد الخامس، وفي عام 1960 عين قاضيا شرعيا للقصور الملكية إلى حين وفاته.