تتعدد الأنشطة الثقافية والدينية التي تزخر بها منطقة سوس على مدار السنة، معلنة بذلك عن غنى الموروث الثقافي الذي يختزل ذاكرة السوسيين، ويضفي طابع الميزة والتفرد على معالمه التي صنعت هذا الموروث عبر التاريخ.
وقد شكلت المواسم الدينية التي تعرفها المنطقة واحدة من أهم هذه المعالم بالنظر إلى المساحة التي تشغلها ضمن اهتمامات الزوار والمحتضنين من جهة، وكذا السلطات المحلية ورجال الإعلام من جهة أخرى.
موسم الولية الصالحة “تعلات” الذي ينعقد في شهر مارس من كل سنة يعد حسب الكثيرين معلمة دينية وتاريخية متميزة، وذات جاذبية خاصة لا تنكرها العين، استطعنا ملامستها والوقوف على حقيقتها من خلال هذا الاستطلاع.
تعلات قرية العلم والعلماء
بين جبال الأطلس الصغير، وداخل المجال الترابي لجماعة تسكدلت بإقليم اشتوكة أيت باها تنتصب قرية تعلات أو للاتعلات باصطلاح السكان المحليين نسبة إلى الولية الصالحة “للاتعلات” التي اشتهرت بتدينها وورعها وحبها الكبير لأهل العلم والذكر، كما تؤكد ذلك رواية عميد الفقهاء السوسيين الحاج الطيب فقيه مدرسة “إمي وداي” حيث قال عنها: “امرأة طاهرة، نقية ربانية، عرفت بتدينها الشديد وبورعها وزهدها وصوفيتها وحبها الكبير لأهل العلم والذكر”.
وأكدت رواية الحاج الطيب، أن هذه المرأة الصالحة المسماة تعلات كانت تسكن بهذه المنطقة التي تحمل اسمها حاليا، وكانت تنصرف خلال أشهر السنة إلى تدبير شؤون أرضها، والاعتناء بماشيتها، وخلال نهاية الموسم الفلاحي تقوم بجمع المحصول وغلة الأرض، وبعد بيعها تقوم بصرف عائداتها على طلبة العلم وشيوخ المدارس الذين يتوافدون على المنطقة خلال هذه الفترة. وقد استمرت تعلات في مسيرتها الحسنة هاته، والتي أكسبتها حب السكان المحليين، فسارت بذكرها الركبان، وانتشرت أخبارها وفتوحاتها الجليلة في أصقاع سوس.
وبعد موتها اجتمع رأي القبائل والعلماء والشيوخ على إطلاق اسم تعلات على المكان الذي عاشت فيه، وأن يكون مكانا للعلم والعلماء وحفظة القرآن وأهل الذكر وعاشقي الروحانية.
هذه حكاية الاسم حسب الحاج الطيب، وهي حكاية تعود إلى قرون خلت، وقد استمر هذا التقليد الجليل دون انقطاع إلى وقتنا الراهن.
مؤتمر سنوي لحملة القرآن
خلال الأسبوع الأول من شهر مارس العربي أو الفلاحي بلغة السوسيين ينعقد موسم الولية الصالحة “تعلات” في أجواء احتفالية خاصة يغلب عليها الطابع الروحاني، يشعر فيه الزائر بالهيبة والخشوع وقدسية المكان، ولا غرابة في ذلك، فالموسم منذ تأسيسه ظل ولا يزال زاخرا بتلاوة كتاب الله عز وجل وترديد القصائد في المديح النبوي من طرف طلبة المدارس العلمية العتيقة الذين يحجون إلى هذا المكان من كل مناطق سوس العالمة.
إنه مؤتمر سنوي لساكنة سوس امتد إشعاعه ليصل كل ربوع الوطن، بدليل توافد زوار من شمال المغرب وشرقه وغربه، الشيء الذي فرض بذل مجهودات من طرف الجهات المسؤولة محليا قصد تدعيم البنيات التحتية من طرقات ومرافق وغيرها لتسهيل عملية التنقل والاحتضان.
فضاء تجاري بنفس روحاني
بالموازاة مع ذلك، يعرف النشاط التجاري رواجا ملفتا طيلة أيام الموسم حيث تكثر نقط البيع لعرض مختلف المنتوجات التي يقبل عليها الزوار في مثل هذه المناسبات..الكل يجد بغيته في هذا الفضاء الفسيح المتميز.
في زيارتك لهذا الموسم تشعر بحميمية الارتباط مع هذه الأرض الطاهرة، يفاجئك منظر الحشود البشرية الكثيفة، التي تتوافد على تعلات، الكل يمني نفسه بقبس من بركات هذه الولية الصالحة التي ترقد في ضريح أقيم بجانب المدرسة العتيقة التي تحمل اسمها أيضا.
إن الزائر لقرية تعلات، وفي هذا الظرف بالتحديد، لا بد أن يمر من مجموعة من المحطات لاكتشاف العشق الروحاني والنفس الصوفي الذي يخيم على المكان، ويتجلى هذا الأمر واضحا في جموع المدارس العلمية العتيقة المنتمية إلى مختلف بقاع سوس، والتي تعتبر الموسم محجا لها ومناسبة للتلاقي وربط أواصر التعارف مع الزائرين.
موسم تعلات مناسبة تمتد طيلة يومين وبليلتين كاملتين، ليلة يوم الأربعاء وليلة يوم الخميس، وفي أجواء خاصة تطبعها قراءة القرآن، تلاوة الأدعية، وترتيل الأذكار والمتون.. جو روحاني بامتياز يحول الليل بتاعلات إلى زمن للتأمل والخشوع، إنها لوحة ناطقة عن حقيقة سوس العالمة التي كتب عنها المختار السوسي رحمه الله.
فرصة للقاء واكتشاف سحر المكان
وعلى هامش هذا التجمع الديني السنوي تعقد لقاءات يحضرها شيوخ وأعيان المنطقة الذين يتوافدون من مختلف المدن الداخلية، وهو مناسبة للقاء أولا وتدارس شؤون وحاجيات المنطقة ثانيا.
إن تعلات بالنسبة لسكان المنطقة تعني الشيء الكثير من خلال حضور البعدين الديني والروحي اللذين يشكلان مركز الإشعاع، وأيضا باعتبار الموسم فرصة لتجمع أعيان وفعاليات المنطقة والتفكير في مشاريع وأوراش لتحسين ظروف الاستقرار للسكان المحلين.
وغالبا ما يستثمره الجمهور كمناسبة لاكتشاف سحر المكان والحدث، سحر الفضاء ذو البعد الثقافي والروحي الذي يكتنف حروفه كل معاني التسامي نحو مدارج الصفاء والإشباع الروحي. ويعد الاحتفال بهذا النشاط احتفاء بالجذور الثقافية والروحية التي يتحتم حمايتها وإثراؤها، وجعلها رافدا من روافد الخطاب الحضاري المبني على التسامح مع كل محبي السلام.