الثقافة الأمازيغية كغيرها من ثقافات الأمم الأصيلة لها وسائط تعبيرية ثقافية وجمالية تتجسد عبر عدد لا متناه من الأشكال الرمزية التي تمثل شاهدا أو مؤشرا زمنيا عن تاريخها الحضاري المتواصل وتحمل ٱثار تاريخ الإنسان الأمازيغي ولا تحيد عن أفقه الوجودي وتعكس طبيعة انشغالاته وأسئلته الأساسية ورؤيته للعالم ونظرته إلى أسس نظام الكون والمجتمع وطبيعة الأخطار التي تتهدده..
إنها ثقافة أصيلة تعكس الطابع الحضاري لحياته وعلاقاته ومعتقداته صاغها على شكل اساطير وحكايات وطقوس وممارسات ثقافية، واغتنت هذه الثقافة الأمازيغية بمختلف المكونات الحضارية التي ساهمت في صياغة الخصوصية الثقافية الأمازيغية.
الثقافة الأمازيغية كباقي أشكال الثقافات الشعبية للشعوب الأصيلة هي ذات قيمة إنسانية تتشكل من أنساق تعبيرية ودلالية تحاكي وتعبر عن الإنسان والواقع والطبيعة بوسائل لسنية وغير لسنية مثل طقوس الاحتفالات الاجتماعية والدينية وطقوس الحكي الميثولوجي وفنون الشعر والرسم والتشكيل والبناء وغيرها من انماط الثقافة الشعبية الامازيغية.
ويدخل ضمن هذه الوسائل التعبيرية الثقافية والفنية طقوس الاحتفال بعيد الأضحى أو ما يسمى بظاهرة “بوجلود” التي لا تزال حاضرة في واقعنا الاجتماعي والثقافي، وهي ظاهرة اجتماعية وثقافية وفنية تبرز الفعل والحركة الإنسانية تجاه الطبيعة والحياة وبالنسبة للإنسان الأمازيغي في العصور الغابرة كانت معتقدا وطقسا احتفاليا واجتماعيا.
أما في العصر الحالي فتحولت ظاهرة “بوجلود” إلى نمط “فولكلوري” اي (شظايا من الماضي) يتم إحياؤه في قوالب جديدة ويستخدم لأغراض ثقافية موسمية وفي بعض الأحيان للدعاية السياحية بل وحتى السياسية!!!.
وعن بداية ظهور الظاهرة وموطنها الأصلي استحال على المؤرخين والانتروبولوجيين والاثنوغرافيين تحديد تاريخ ظهور هذه الظاهرة بالمغرب وبمنطقة سوس خصوصا، حيث أن تحليلاتهم ترى بأن مثل هذه الظاهرة تعرفها الأمم والشعوب القديمة بما لها من صلة بالمعتقدات الوثنية وبالذات تلك المعتقدات التي تقدس الحيوانات.
وترسيخا لهذا الاعتقاد يرى بعض الباحثين ان لفظة (ءيزمر- الكبش) قد تكون لها علاقة بالجذر اللغوي (زمر) الذي يفيد معنى القدرة والقوة بالأمازيغية عند الناطقين باللسان الريفي ومن طقوس الاحتفال بعيد الأضحى الاحتفاظ بعضم كتف الكبش المضحى به (ءيخس ن تغروضت) واستعماله للتنبؤ به حول احوال السنة أو وضعه على سطح البيت للاحتماء به أو رميه في المطمورة (تاسرافت).
الكبش (ءيزمر) كان يقدم قربانا في الطقوس الدينية والاجتماعية (وما يزال يقدم هدية في كل الاحتفالات وحفلات الزواج أو غيرها) ويحضر (الكبش- ءيزمر) في المشاهد الكرنفالية (بيلماون) أثناء الاحتفال بعيد الأضحى (لعيد ن تفاسكا) وهو من رواسب العقيدة الامازيغية القديمة التي كانت تقدس وتبجل الكبش. ولقد ذكر المؤرخ كسيل Gsell ان الإله (امون) في شمال أفريقيا كان يجسد على شكل كبش ذي قرنين يمثل الشمس عند الغروب واعتقد بعض المؤرخين ان عبادة الكبش في بلدان شمال افريقيا استمرت لعهود وقرون الى حدود العصور الوسطى ولقد اشار ابو عبيد الله البكري الى وجود تلك الظاهرة في زمنه وتحدث بالخصوص عن قبيلة جبلية بين اغمات وسوس بجنوب المغرب كانت لا تزال في عهده تعبد الكبش.
وعن عمليات البحث والتنقيب والتحقيق عن اصل الظاهرة وظهورها اوعن معتنقيها وممارسيها فإنها لا تزال غير مكتملة وغير واضحة حيث ان كل ما نشر عن ظاهرة (بوجلود) يبدو غير كاف لإماطة اللثام عن بداية الظهور والانتشار سواء عند المؤرخين او عند الانتروبولوجيين او غيرهم باستثناء بعض الإشارات القليلة والإضاءات الباهتة التي تظهر هنا وهناك في صفحات الكتب والمجلات والبحوث الجامعية وهي كلها لا تشفي الغليل ولا تشبع لهفة الباحثين والدارسين المنقبين عن كنوز هذا التراث الانساني.
أرجع البعض تاريخ ظهور هذا الطقوس التعبيرية إلى العصر الأول من الحياة الإنسانية نظرا للاحتكاك المباشر للإنسان مع الطبيعة وتعاملوا مع هذه الظاهرة الاجتماعية باعتبارها شكلا ثقافيا اوليا تعرفها كل الشعوب والامم القديمة والتي لها صلة بالمعتقدات الوثنية والبعض الاخر منهم ربط الظاهرة ببعض المعتقدات اليهودية في المغرب وخصوصا ظاهرتي “ايمعشار” و “ايصوابن ” المشهورتين بتزنيت وافران الأطلس الصغير.
إميل لا ووست E – La oust من جهته أشار ان الظاهرة مرتبطة بطقوس الأفراح عند الأمازيغ حيث يقوم الاهالي بإشعال النيران ويرتدي شبابهم ألبسة مزركشة وجلود الحيوانات لإضفاء الطابع “الروحي” على الاحتفال اما عندما تنقطع الأمطار أو (تغضب الطبيعة) فيلجؤون الى ذبح الخرفان والماعز والأبقار ويقدمونها قربانا لآلهة الأنهار تماما كما كان يفعل المصريون في عصر الفراعنة.
غير أن هذا الجانب الوثني أفرغ من حمولته البدائية الأولى وأصبح يرتبط بعد ذلك بطقوس الفرجة والاحتفال الجماعي ويقترن بعيد النحر أو عيد الأضحى ليتماهى ويتزاوج الاحتفال الديني بالطقوس الاحتفالية القديمة.
وعن تسمية هذه الظاهرة فتختلف من منطقة إلى أخرى، غير أن اشهرها هي لفظة “بوجلود” (نسبة إلى ذلك الذي يلحف جسده بجلد التيس أو الخروف)، وفي منطقة الشاوية تنعت الظاهرة باسم “بولبطاين”، وفي الأطلس الصغير تعرف باسم” بيلماون”، وفي الريف يرد اسم “داشيخ”، وفي تلمسان غرب الجزائر يتداول بكثرة اسم “بوجلود” ويطلق على الرجل الذي يتشح بجلد الأضحية ويرافقه آخر متنكرا في ثياب نسوية يسمى “سونه” يركضان ويرقصان ويطلبان من المضحين حقهما من لحم عيد الأضحى، لكن تبقى لفظة “بوجلود” التسمية الأكثر تداولا وانتشارا في سوس وباقي المناطق في المغرب.
وعن رمزية اللفظ والظاهرة فإن التحام والتحاف الإنسان بجلد الحيوان والتوحد بين الكائنين هو رمز وإشارة للحب والخصوبة لأن “بوجلود” يجمع بين الشكل الحيواني والسلوك البشري الفطري-الطبيعي وهو ما يثير المخيلة الايروسية ويوقظ الرغبة الجنسية- الحيوانية لفظا أو إشارة أو تلميحا.
فبالأظلاف أو قوائم الحيوان يستطيع بوجلود أن يلمس النساء أو الفتيات على كتفهن أو صدورهن او ثديهن أو أردافهن حيث مكمن الإثارة راسما لهن حركات وإيماءات غزلية أو جنسية فيها انتهاك للأخلاق والسخرية من القيم الاجتماعية.
وتبدا مراسيم الاحتفال وطقوسه زوال يوم عيد الأضحى بعد أن يؤدي المصلون صلاة العيد ويشرعون في طقوس الذبح (الشرعية) ثم تجمع الجلود التي تترك على حالها من القذارة وكأن هذه القاذورات حينما تلتصق بالجسد سرعان ما تزول وهو ما تفيد التطهير والتنقية (كما في الأساطير اليونانية).
ويفرض على جميع الأفراد ذكورا وإناثا الالتحاق بساحة “الموضع” أو “أسايس” هناك تبدأ طقوس الاحتفال الجماعي وتكتمل الفرجة ركضا وهرولة ومطاردة وضربا وصفيرا وصراخا وضحكا وبشكل جماعي منظم ومنتظم ومقبول جماعيا…
فالكل يشارك في هذا الإخراج الفني الشعبي كما تشارك في الاحتفال فرق وأجواق موسيقية ومجموعات الرقص الجماعي (أحواش).
هكذا كانت تقام طقوس الاحتفال خلال ايام عيد الاضحى المبارك بغاية تحقيق المتعة والفرجة الجماعيين وتلك هي كانت هذه الطقوس الاصيلة تبرز الفعل والحركة الانسانية تجاه الطبيعة والحياة ويشارك الكل في طقوس هذا الاحتفال…
إنهم مجموعات بل إنهم كل أفراد الجماعة يمارسون هذه الطقوس الاحتفالية كفعل إنساني وكطقس من طقوس الحياة لا كمهنة أو كفن نخبوي فردي تكسبي.
غير أن الواقع الحالي للظاهرة بدأ يتحلل من طابعه الأصيل حتى أصبحت ظاهرة بوجلود ظاهرة فولكلورية أو كرنفالية بالأساس أكثر منها ظاهرة ثقافية إنسانية.
ومن علامات الانحراف أن هذه الظاهرة الثقافية الأصيلة دخلت مجال الفولكلور حيث الإبداع الزائف وحيث استغلال الظاهرة البوجلودية في الدعاية السياحية والتجارية وحتى السياسية!!!.
بذلك نسقط في شباك الاثنولوجيا الاستعمارية هذه الاخيرة ارتبطت نشأة وتطورا بتاريخ الحملات الاستعمارية وتاريخ بحثها عن مسوغات فكرية ايديولوجية لعنصريتها العميقة حيث كان “علم الاثنولوجيا” يدرس تاريخ وقوانين المجتمعات التي لا تاريخ لها أو التي لم تعبر عن نفسها كتابة بل بوسائط أخرى ولذلك ترى “علماء” الاثنولوجيا ينظرون إلى الثقافة الشعبية باعتبارها شكلا لاعقلانيا ولا تاريخيا فانتهوا إلى نوع من العنصرية الحضارية تحت قناع الدفاع عن الخصوصية الثقافية للشعوب مبرزين مظاهر شخصيتها واستقلالها، لكنهم يخفون في الحقيقة احتقارا لها.
ومن أبرز المفاهيم التي انتجوها واستخدموها للتمييز بين ثقافتهم أو “علمهم” وثقافتنا نحن كان هو مفهوم (الفولكلور).
إن مسؤولية الباحث النزيه في هذا المجال الفني الشعبي الخالص ان لا يقتصر على مجرد رصد مواد الابداع الشعبي وانما يجب ان تتجاوز ذلك الى غربلة تلك المواد للتمييز بين المأثور الحقيقي والإبداع الزائف والمأثور الشعبي المستغل في الدعاية التجارية والسياحية والسياسية.. إن هذا الاستغلال يشكل خطرا يهدد هذا التراث الشعبي الأصيل.
فلنحذر من استعمال مثل هذا المفهوم (الفولكلور- الكرنفال..) لأنه يحمل منحى عنصريا واحتقاريا للثقافة الشعبية بل يستخدمه كأساس للاستهلاك كمادة اعلامية او تجارية او سياحية او حتى سياسية وليس كمأثور ثقافي انساني حقيقي ؟؟
بقلم الأستاذ محمد بادرة