تعتبر المياه من أهم الموارد الطبيعية الضامنة لاستمرار الحياة البشرية وكافة الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، خاصة الفلاحية التي تتميز بها مدينة تارودانت.
ومن الخصائص الطبيعية التي استفردت بها المدينة، تعدد “السواقي المائية” منذ غابر العهود، ما سمح بخلق حدائق وعرصات فريدة بتنوعها البيولوجي، وغنى المجال الطبيعي الذي ساهمت فيه وفرة المياه السطحية.
وتعد “السواقي المائية” كأنظمة نقل نشيطة للمياه عبر أروقة تحت أرضية، معلمة تاريخية واقتصادية واجتماعية وتراث ايكولوجي، حيث كان جريان المياه ينساب على مدار السنة بدون انقطاع في سواقي بطول امتدادها، وعرض مجراها، وعمق مسارها، وحجم صبيبها.
فقد وردت أسماء تلك السواقي في محررات عقود عدلية، منها ساقية “تملالت” في ظهير واحد لمحمد الشيخ السعدي ومحررين وشهادة عدلية سنة 965 هـ، ثم ساقية “ترغونت” في شهادة حبسية سنة 983 هـ ومحرر نوبة مائية سنة 1007هـ، على أن أقدم وأعظم مجرى مائي بتارودانت يرجع تاريخه إلى أربعة قرون وسبعة عقود (470 سنة)، وهي ساقية “تافلاكت”.
وفي هذا السياق، قال محمد سرتي، أستاذ باحث، في تصريح صحفي، إن من أهم معالم التراث المائي بتارودانت “ساقية تافلاكت” التي تعتبر من أكبر سواقي المدينة، تؤخذ من وادي سوس شرق تارودانت عند نقطة تعلو مستوى البحر بـ 259 مترا، ويبلغ طولها حوالي 20 كيلومترا.
وأضاف، سرتي، أن ساقية “تافلاكت” تخترق سور المدينة من الجهة الشمالية بباب الخميس، وتمر إلى جهة أولاد بنونة، وتسير بمحاذاة واد الواعر إلى دوار الطالعة بمنطقة الكلالشة، حيث تتدفق بقوة وتشق سائر حقول المدينة وتخترق السواقي الأخرى وتصب فيها عند الحاجة، مبرزا أن هذه المعاني هي التي تؤديها كلمة (تافلاكت) في الأمازيغية، ويمكن أيضا أن تكون أخذت اسمها من أحد الأشخاص، فقد ورد اسم (الفلاكي) وهو أندلسي يشار له أحيانا بـ (العلج) وكان قائدا لجيش المرابطين الذي تصدى وقتا طويلا لهجمات الموحدين على تارودانت ومنطقة سوس وساهم في سد الثغور وبناء سلسلة من الحصون.
وتابع المتحدث ذاته، بأن هناك أيضا “ساقية تاملالت” تؤخذ من نهر سوس جنوب أولاد عرفة عند نقطة يبلغ ارتفاعها 250 مترا فوق سطح البحر، وتمتد موازية لساقية “تافلاكت” إلى أن تدخل إلى المدينة عند باب القصبة، حيث تخترق المدينة من وسطها إلى أن تخرج من غربها شمال باب تارغونت، ثم تستمر إلى جنوب دوار الطالعة بالكلالشة.
وتعتبر الساقيات، تراثا إنسانيا حضاريا ينم عن عبقرية الإنسان الواحي، خاصة على مدى قدرته على التكيف مع خصائص البيئة الجافة، فهي وسيلة وتقنية لنقل المياه عبر قناة باطنية، تساهم بشكل كبير في التقليص من تبخر الماء من خلال نقله دون استخدام طاقة ملوثة.
وتبقى هذه السواقي، تراثا مائيا ورصيدا اجتماعيا واقتصاديا وروحيا بل وسياسي، مما يعطي لها راهنية كبيرة في معرفة الدور الذي لعبته في استقرار القبائل والمجموعات البشرية على مر التاريخ المغربي العريق.